سورة القصص - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


{وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)} [القصص: 28/ 62- 67].
هذه مواقف ثلاثة مثيرة للخجل والندم، موقعة في العجز والإحباط، مفادها التوبيخ والتأنيب للمشركين في يوم الحساب، والإشارة لقريش:
الأول- اذكر أيها النّبي يوم ينادي اللّه المشركين عبّاد الأصنام، إما بواسطة أو بغير واسطة، فيقول لهم: أين الآلهة التي زعمتم أنها شركاء في الألوهية؟ بمقتضى قولكم وزعمكم. والمقصود من السؤال: التوبيخ والتقريع، إذ لا جواب عندهم، وكأن ذلك موجّه أصالة للأعيان والرؤوس منهم، الذين أوقعوا غيرهم في الغواية والضّلال، تأكيدا لاستحقاقهم العذاب المضاعف، لكنهم طمعوا في التّبري من الأتباع، فأجابوا وقد ثبت عليهم مقتضى القول، ولزمهم العذاب: ربّنا هؤلاء هم الأتباع الذين آثروا الكفر على الإيمان باختيارهم وإرادتهم، وهؤلاء أضللناهم كما ضللنا نحن باجتهاد لنا ولهم، وأحبّوا الكفر كما أحببناه، فنحن نتبرأ إليك منهم، وهم لم يعبدونا، إنما عبدوا غيرنا. وهذا يعمّ جميع الكفرة، لكن الجواب من المغوين من الشياطين: الجنّ، ومن الإنس: الرؤساء والسّادة.
الثاني- نداء آخر للكفار لمعرفة ما أجابوا المرسلين الذين دعوهم إلى توحيد اللّه تعالى، فيقال لهم: ادعوا شركاءكم الآلهة لتخليصكم مما أنتم فيه، كما كنتم ترجون في الدنيا، فدعوهم لفرط الدهشة والحيرة، فلم يجيبوهم عجزا عن الجواب، وتيقنوا أنهم صائرون إلى عذاب النار، وودّوا حين معاينة العذاب المحيط بهم، لو أنهم كانوا مهتدين إلى الإيمان بالحق والدين القويم. وهذا توبيخ وتقريع آخر، لكشفهم أمام الناس، واللّه يعلم كل ذلك سلفا.
الثالث- واذكر أيها النبي يوم ينادي اللّه سبحانه وتعالى أهل الشرك، لمعرفة جوابهم للمرسلين إليهم، وهل استجابوا لدعوتهم لتوحيد اللّه تعالى، وإلى أصول الأخلاق، وعبادة اللّه تعالى، وإصلاح الحياة. ولكن أظلمت الأمور عليهم، وخفيت الأدلة الدفاعية المقنعة، ولم يجدوا معتصما غير السكوت، لما اعتراهم من الاندهاش والذهول. وجاء الفعل: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ} بصيغة الماضي، لتحقّق وقوعه، وأنه تعيّن، والماضي من الأفعال متيقّن، فيعبر به عن المستقبل المتيقّن، لتأكيد وقوعه وتقوية صحته. والمعنى: أظلمت جهات الأمور عليهم. ولم يبق لديهم أمل في مساءلة بعضهم بعضا لحلّ المشكلات، لأنهم قد أيقنوا أنهم جميعا، لا حيلة لهم ولا مكانة، ولا أمل في النجاة.
ثم استثنى اللّه تعالى من هؤلاء المشركين الآيسين من رحمة اللّه أولئك الذين تابوا من كفرهم، وآمنوا بالله ورسله، وعملوا بتقوى اللّه، فهؤلاء يرجى لهم من اللّه الفوز والنّجاة، والظفر بالنعيم الدائم. إن الذين تابوا من الشّرك، وصدّقوا بالله، وأقرّوا بوحدانيته، وأخلصوا العمل للّه، وأدّوا الفرائض وغيرها، وآمنوا بالنّبي محمد صلّى اللّه عليه وسلم، هم الفائزون برضوان اللّه ونعيمه الجنان.
والتعبير بكلمة (عسى) المفيدة للرجاء، دون القطع واليقين بحسب اللغة، يراد بها هنا التأكّد والتّيقّن، لأن (عسى) من اللّه واجبة التّحقّق، كما قال كثير من العلماء.
وهذا مستفاد من حسن الظّن بالله تعالى، المبني على فضله وكرمه، خلافا لما عليه حال البشر، فإن قولهم مثلا: عسى ولعل مجرد ترج وتوقّع لا يدلّ على التأكّد والتحقّق.
صفات الجلال والجمال والكمال:
الجلال التّام، والجمال المطلق، والكمال النّهائي، والإرادة الشاملة، والسّلطان النّافذ: إنما هو كله لله وحده، لا لأحد سواه، فهو خالق الأكوان والعباد، وبيده الأمر في البدء والختام، وله الحكم والقضاء النافذ في الدنيا والآخرة، فأين موقف المعاندين؟ لا يساوي شيئا، إن اللّه تعالى خالق الليل والنهار، لحكمة واضحة فيهما، فإن أراد التغيير والتبديل، من يستطيع الحيلولة من ذلك؟ إن الآلهة المزعومة المتخذة شركاء لله في الألوهية لا يصمدون أمام النّقاش في حقيقة الألوهية، ولا يجدون برهانا يقنع، ولا متّكأ يعتمدون عليه، تصور هذه الآيات الكريمة هذه المعاني تصويرا دقيقا، لا لبس ولا غموض فيه، قال اللّه تعالى:


{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)} [القصص: 28/ 68- 75].
المعنى: إن اللّه تعالى هو المتفرّد بخلق ما يشاء، واختيار ما يريد، ما كان لأحد غير اللّه القدرة على الاختيار، يختار قوما لأداء الرسالة، ويصطفي من الملائكة والناس رسلا لأداء المهمة، تنزه اللّه وتقدّس عن إشراك المشركين، وعن منافسة الأصنام وغيرها في خلقه واختياره. سبب نزول هذه الآية الرّد على تطلّعات قريش وترقّبهم إنزال القرآن على غير محمد صلّى اللّه عليه وسلم، وهو أحد رجلين: إما الوليد بن المغيرة من مكّة، أو عروة بن مسعود الثّقفي من الطّائف. فردّ اللّه تعالى عليهم أنه سبحانه يختار لرسالته من يريد، ويجعل فيه المصلحة، وليس الاختيار للناس في هذا ونحوه، كما أنه تعالى هو الذي يختار الأديان والشرائع، وليس لأحد الميل إلى الأصنام ونحوها في العبادة.
واختيار اللّه تعالى مبني على علم صحيح ثابت، فهو يعلم ما تنطوي عليه الصدور، وما يعلنه الناس من الأقوال والأفعال.
وعلمه تعالى صادر عن قدرة شاملة وسلطان نافذ، فهو المتفرّد بالألوهية، فلا معبود سواه، وهو القادر على كل الممكنات، المنزه عن النقائص والعيوب، المستحقّ للحمد والشكر والعبادة، المحمود في جميع ما يفعله في الدنيا والآخرة، له القضاء النافذ في كل شيء، وإليه مرجع جميع الخلائق في القيامة.
وأدلة قدرة اللّه تعالى على كل شيء كثيرة ومتنوعة، فقل أيها الرسول لكل من أشرك بالله إلها آخر: أخبروني إن جعل اللّه وقتكم كله ظلاما دامسا، وليلا دائما متتابعا إلى يوم القيامة، من الإله المتألّه غير اللّه يتمكن من الإتيان بضياء النهار، أفلا تسمعون ذلك سماع تعقّل وتأمّل؟! وقل أيها النّبي أيضا: أخبروني إن جعل اللّه زمنكم كله نهارا دائما، ونورا متّصلا إلى يوم القيامة، دون أن يعقبه ليل، من الإله الذي يستطيع أن يأتيكم بليل، تسكنون فيه سكن الراحة والاطمئنان، أفلا تبصرون هذه الظاهرة الدالة على القدرة الإلهية التامّة؟! إن من رحمة اللّه تعالى بكم أيها الناس تعاقب الليل والنهار، وتفاوتهما، لتجعلوا الليل مجالا للراحة والسكن النفسي، والنهار مجالا للتبصّر وتحصيل المنافع، وكسب المعايش، وابتغاء الرزق والفضل الإلهي، والتنقّل من مكان لآخر، وقضاء الحاجات، فتشكروا اللّه تعالى بأنواع العبادات على ما يسّر لكم.
واذكر أيها النّبي للمشركين مرة أخرى يوم يناديهم اللّه بواسطة، لأن اللّه تعالى لا يكلم الكفار كما رجح القرطبي، فيقول: أين الشركاء الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي في الألوهية، ليخلّصوكم مما أنتم فيه؟ وقد كرّر اللّه تعالى هذا المعنى إبلاغا وتحذيرا، وتوجيه هذا النداء يقصد به توبيخ الكفار وتقريعهم. وأكّد اللّه ذلك بالإشهاد عليهم، ليعلم أن التقصير منهم، والإشهاد: أن يخرج اللّه من كل أمّة شهودا عليهم: وهم الرّسل الكرام، فكل رسول يشهد على قومه بأعمالهم في الدنيا، ويشهد نبيّنا صلّى اللّه عليه وسلّم على الأنبياء جميعا. ويقال للمقصّرين: أحضروا برهانكم على صحة ادّعائكم أن لله شريكا، فلم يتمكنوا ولم يجيبوا، فعلموا أن الحقّ في الألوهية لله وحده، وتاه عنهم وتبدّد كل ما يفترونه ويكذّبونه من نسبة الشريك لله تعالى.
قصة قارون:
1- فتنة المال وتأثيره على الإنسان:
أورد اللّه تعالى تفصيلا واضحا لقصة قارون الذي كان من قوم موسى، فاغتر بماله وثرواته، وزعم أنه أوتي ذلك بذكائه ومهارته، وأنه لا حقّ لأحد له فيه، فجاءه التوجيه الإلهي إلى ضرورة استعمال المال والانتفاع به فيما يحقّق له النفع في الآخرة، وإصلاح شؤون الدنيا، والإحسان في تثميره وتنميته وإنفاقه، وتجنّب كل مهاوي الفساد والإفساد به في الأرض، ولكنه لم يستجب لهذا التوجيه، وبطر في عيشه وتبختر، فحقّ عليه الهلاك والدّمار، قال اللّه تعالى واصفا قصة قارون:


{إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)} [القصص: 28/ 76- 78].
كان قارون الثّري المترف ابن عم موسى عليه السّلام، وهو رجل من بني إسرائيل، كان ممن آمن بموسى، وحفظ التّوراة، وكان من أقرأ الناس لها، وكان عند موسى عليه السّلام من عبّاد المؤمنين، ثم لحقه الزهوّ والإعجاب، فبغى على قومه بأنواع البغي، من ذلك كفره بموسى واستخفافه به، ومطالبته له بأن يجعل له شيئا من المكانة والنفوذ والمشاركة في شؤون السلطة على الناس، وتجاوز الحدّ في بغيه، حتى إنه حاول التشهير بموسى، بامرأة مومس فاجرة ذات جمال، تدّعي أمام الملأ من بني إسرائيل أن موسى يتعرض لها في نفسها، ويكافئها على ذلك، وتستنجد به، فلما وقفت بين الملأ، أحدث اللّه لها توبة، وفضحت قارون في محاولاته تلك. وقد آتى اللّه قارون أموالا نقدية وعينية كثيرة، يثقل بحمل مفاتيح خزائنها الجماعة أولو البأس والقوة، فنصحه الناس بخمس مواعظ:
- قال له قومه الإسرائيليون: لا تبطر ولا تتبختر بمالك، فإن اللّه يكره البطرين الأشرين. إنهم نهوه عن الفرح المطغي الذي هو انهماك وانحلال نفس، وأشر وإعجاب، مؤدّ به إلى المهالك.
- ثم وصّوه بأن يطلب بماله رضا اللّه وآخرته، وإنفاق بعض المال في وجوه الخير وطاعة اللّه، ونفع الأمة أو المجتمع، والتقرّب إلى اللّه بأنواع القربات المحققة للثواب في الدار الآخرة، لأن الدنيا لا تغني شيئا.
- ولم يقطعوه عن الدنيا، فقالوا له: لا تترك حظّك من لذّات الدنيا المباحة، من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن وغيرها، لكن لا تضيّع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك، إذ الآخرة إنما يعمل لها في الدنيا، فنصيب الإنسان: عمره وعمله الصالح، فينبغي ألا تهمله، وطلب الحلال مشروع، مع النظر إلى عاقبة الدنيا.
- وأحسن إلى الخلق كما أحسن اللّه إليك باللّين والمعاملة الحسنة وتحسين السمعة وحسن اللقاء، وفي ذلك جمع بين خصلتي الإحسان: الإحسان الأدبي الرفيع، والإحسان المادّي المقبول، وهذا أمر بصلة المساكين وذوي الحاجة وإتقان الأعمال.
- ولا تقصد الإفساد في الأرض بالظلم والبغي والإساءة إلى الناس، فإن اللّه تعالى يعاقب المفسدين، ويحول بينهم وبين رحمته وعونه.
لكن قارون أبي سماع هذه المواعظ المتضمّنة اتّقاء اللّه في مال اللّه، وأخذته العزة بالإثم، فأعجب بنفسه، وقال لناصحيه: أنا لا أحتاج لما تقولون، فإن اللّه تعالى إنما أعطاني هذا المال، لعلمه بأني أستحقّه، ولمعرفتي وخبرتي ومهارتي بكيفية جمعه، فأنا له أهل، فأجابه اللّه تعالى بأنه: أو لم يدر في جملة ما عنده من الدراية والعلم أن اللّه تعالى قد دمّر من قبله من هو أكثر منه مالا، وأشد قوة، وأعظم مكانة، وأشهر سلطانا ونفوذا، ولا يسأل المجرمون عن كثرة خطاياهم وسيئاتهم حينما يعاقبهم، لأنه تعالى عليم بكل المعلومات، مطّلع على جميع الأقوال والأفعال، فلا حاجة به إلى السؤال سؤال الاستفسار، كقوله اللّه تعالى: {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 2/ 283].
وسؤال الاستعتاب، كما قال عزّ وجلّ: {هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)} [المرسلات: 77/ 35- 36]. لكن لا مانع من سؤال الكافرين والمفرطين سؤال توبيخ وتقريع، كما في قوله تعالى: {فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 15/ 92- 93]. وقوله سبحانه: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24)} [الصّافّات: 37/ 24].
2- جزاء بغي قارون:
استبدّ البغي والغرور بقارون الثّري المترف، وسيطر الكبرياء والعجب والتّجبر على نفسه، فأراد إظهار ما لديه من الثراء والقدرة على الملابس والمراكب وزينة الدنيا ومفاتنها، فافتتن أهل الدنيا باستعراضه الفاخر وتمنّوا أن يكونوا مثله، ولكنّ أهل العلم والمعرفة المتيقّظين لحقائق الدنيا ومظاهرها حذّروا من هذه الفتنة، ووجّهوا إلى العمل الأخروي الباقي. وكانت العاقبة كما قدّروا، فخسف اللّه بقارون الأرض، ودمّر دوره وممتلكاته، واستيقظ الناس على هذا المصير المشؤوم، وأرشدتهم صحوة العقل والدين إلى أن زوال الدنيا سريع، وأن خطر العقاب لكل عات متمرد قريب، قال اللّه تعالى مبيّنا هذه الخاتمة لقارون:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6